الخطر لايتأتى من المثقف الذي يتبنى اتجاها فكريا ما ‘
بقدر مايتأتى من المستثقف الذي لايمتلك أي اساس معرفي أو منهجي
هذا حوارٌ مطوَّلٌ جمعني إلى صديقي الأستاذ المفكر شرف الدين شكري. حوارٌ يختزل تجربة جزائرية ثرية جدا ،يمكن اعتبارها بمثابة العينة النشيطة في الثقافة الراهنة.حوارٌ من نار ونور ،كما عودتنا عليه الحوارات البناءة التي نحتكم إليها لأجل معرفة ذاتنا الدؤوبة في سعيها نحو الجديد الممكن .حوارٌ ارتأيت أن أوزِّعه على القرَّاء كي يستمدُّوا منه جمرة الإحساس البسيط الجمالي، وتواضع العطاء المميَّز لا كدروس تربية ركيكة يدعيها الكثير من الكتاب،وإنما كمحفزات تحرير من ربقة الضوابط والمثبطات الأخلاقية التي شاركت عميقا في إيصالنا إلى ما نحن عليه من أزمات نفسية ومعرفية خطيرة،وجب التأمل فيها لأجل تغيير مصائرنا إلى ممكنٍ أجمل ....
حوار : صليحة نعيجة
***
ص.ن: اسمح لي أستاذ شكري بهذا النوع من الأسئلة المباشرة التي أعرف مسبقا بأنك لا تحبذها ،ولكن من أجل وضع بعض القراء الذين لا يعرفونك أو الذين لا يعرفونك جيدا أمام "بعض منك " : من هو شرف الدين شكري ؟
ش.ش : هناك منطقٌ مباشرٌ و آخرٌ غيرُ مباشر للإجابة على سؤال أراهُ أنا شخصيا ضاربا في غياب المعالم من جهة والوعي بقلة التفاصيل ..من جهة ثانية.
فأمَّا المنطقُ المباشرُ الذي ألصَقتْهُ بنا الحالة المدنية والعقد الاجتماعي فهو منطقُ الهوية "الكلاسيكية "الذي يقولُ بأنني أحملُ الجنسية الجزائرية - لتحديد المجال الجغرافي - الجزافي حتما-، و بأنني من مواليد 1972 بمدينة بسكرة. هذه المدينة - اللُّغم- التي امقُتُ تواجدي فيها إلى حدٍّ كبير جدا. هذه المدينة "العمياء "، التي تغيبُ عنها الألوان، ولا تعرفُها الطبيعة الخضراء إلاَّ نادراً. إنها مدينة تقتربُ من اللاَّزمن واللاَّحياة...مدينةٌ أنحتُ وجودي من صخرها لضمان القليل من العيش " غير الكريم"، كباقي الكائنات التي تُصارع من أجل البقاء، في انتظار انتقالها إلى عالمٍ ربما يكون أفضل.إنني أحاول أن أعيش.أنا لا أعيش. وإنني أتساءلُ إن كانت محاولة العيش هذه، تعني فعلا " العيشَ ّ، وإنني بالمقابل أخشى أن أصلَ عند نهاية جدار هذا السؤال إلى قناعةٍ مفادُها أنْ ليس هناك محاولةٌ أو عدمُها للعيش، وإنما هناك حياةٌ نخوضُ تفاصيلها فحسب.إي إنَّ هناك ّ عيشٌ " وكفى، وأنَّ السؤال منتهاه حتما هو السؤال، وإنَّ لكلٍّ منَّا دورٌ يلعبُه في هذه الحياة : منَّا المحاربُ والمتخاذل، الرئيس والمرؤوس، السيِدُ و العبد، العاهرُ والذي لم يتمكَّن بعدُ من ذلك وذلك الذي يقول عنه (المجتمعُ) بأنَّه يمثِّلُ كل شروط " الـ "عفّـَة " ..منَّا البريء الذي لم تطأ قدمُهُ بعدُ قمرَ المغامرة، والدَّنسُ الذي يُساهم من جهتهِ أيضا في حقيقة الكون واتزانه. لجميعنا...لجميعنا أدوارٌ مهمةٌ، رغما عنَّا في هذا الوجود.. في صنع المعادلة الصعبة لهذا الوجود،والتي تقولُ بعضُ الطبعات الفلسفية - التي أؤمنُ بها في العمق - بأنَّها تُدعى " تراجيديا " ...
وأمَّا المنطقُ غير المُباشر، والذي يسعى كل مثقف "حقيقي " إلى رسم معالمه ، فهو منطقُ الخروج عن قمقم السِّجنِ الابتدائي الذي وضعتنا فيه الحالة المدنية والذي بزغَ ساعة ميلادنا، وختمت تعاليمهُ العادات والتقاليد والنُّظم التدجينية التي تعودُ حتما إلى "كرونولوجيا" رجعية أو ماضوية بامتياز...أو الزمن الذي خرجنا منه ، والذي يرفُضُ خروجنا عنه، والذي علينا أن نسعى إلى كسرِ "ميكانزماته الإبقائية " لكي نُثبِتَ مكانتنا نحنُ أيضا في الزمن الآتي ، بدل الآني الذي أَعلنَّا إفلاسنا ويا للأسف...إفلاسنا شبه الكلي في حضرته.
من هو شرف الدين شكري؟ سؤالٌ لا أملكُ أنا بدوري، في ظل البحث عن ذاتٍ مستقلَّــة عن الزمن الرديء الإجابة عنه ، لأنَّ مغامرة العقل التي أدَّعي الإبحار في لجتها أملا في أن أرسو ذات ساعةٍ إنسانية خالصة على مرفئها، لا يحينُ ميقاتُها إلاَّ لحظة انتهائنا البيولوجي وسَفَرِنا إلى عالمٍ آخر رفقة الزاد الأخير الذي بذرناهُ على الأرض التي حاولنا العيش فيها،مستغلين شتى الوسائل ، كلٌّ بمَا أوتيَ من عتاد، بماَ في ذلك عتاد العقل. هذا العتاد الذي يبدو بأنَّهُ يتعارضُ دوما مع المنطق المركزي والمُباشر الذي ذكرتُهُ آنفا، وهو منطقُ الحالة المدنية والعقد الاجتماعي الجاهل الذي يستوطنُ فوق أرض المُغامرة الذهنية.
***
ص.ن : كنتَ نشطا جدا في العشرية الأخيرة بمدينة قسنطينة...لماذا اختفى اسمُك فجأةً ؟
ش.ش : قسنطينة المكان ، لم تتغيَّر أبدا ، رغم البهرجة الحضارية التي لا بُدَّ منها. و أما قسنطينة الإنسان فقد تغيَّرت ، تغيَّرت كثيرا كثيرا.حين أزور قسنطينة الآن، فإنَّني أدخُلُها بحنين جارفٍ لا يوصف. وهو دخولٌ زمني مُرتبِطٌ لزاما بالمكان الذي أفرزَ ذات ماضٍ قريب ذكريات و معالم لا يُمكنني نسيانُها، لأنَّها تُشكِّلُ جزءًا عظيما من تركيبتي الثقافية .
لقد دخلتُ قسنطينة غريبا، وخرجتُ منها عاشقا، مربوطا إليها دائما ،أينما ولَّيتُ وجهي .فماذا حدثَ بين طيات هذا العشق ؟؟ كيفَ تسلسلت تفاصيلُهُ ؟؟
لستُ ممَّن يعتقدون بأن الإنسان عليه أن يُجْبَلَ على الألم و الحزن و الجهل، إلاَّ إذا ما تغلَّبت عليه " قوَّةُ الأشياء " .فبحكم طبيعته - أي الإنسان -، لا يُمكن له أن يرفُضَ الغبطة ولا المعرفة إذا ما تمكَّنَ منهما إلا في الحالات غير الطبيعية أو الباطولوجية. إنَّ التملُّصَ من الألم و الحزن و الجهل ، يستدعي ، إضافة إلى الظروف المواتية الهاربة عن حساباتنا ، قوَّة تُعرفُ بـ " قوة العمر La Force de l'age " - لكي أستعمِلَ هنا مصطلحا لطالما استعمَــلَتهُ الفيلسوفة الفرنسية " سيمون ديبوفوار" في " Pour une morale de l'ambiguïté" - ،وأعتقدُ بأنَّ نشاطي في العشرية الأخيرة من القرن المنصرم في مدينة قسنطينة ، كان نشاطا مردُهُ الأوَّل إلى " قوَّةُ العمر" . تلكَ القوَّةُ التي كانت تتغلَّبُ إلى حدٍّ كبير على " قوة الأشياء ". تلك القوة التي كانت أيضا لا تكترثُ لغياب جانبٍ مهم، رغم الانتصارات التي قد تبدو عليها ، من مكوِّنات هذا الكون ، وهو معرفة الأشياء ، معرفَةً واقعية ، لا ورقية مثلما أوهمتنا به الانتصارات القديمة التي كانت تحتفي بنا في أوساط صديقة محدودة تكتسي فرحة محلية بسيطة أكثر منها فرحة عالمة.غير أنَّ التزامي كان و لا يزال بعيدا عن ثقافة المركز .
بعد (انقضاء) قسنطينة المكان ، و من ثمة " قوَّة العمر"، و بداية التساؤل عن ضرورة محاكاة قوة الأشياء - سلميا - بدلَ أن تفرِضَ هذه الأخيرة نفسها عنوةَ ، بدأ العملُ على بسطِ قوة العقل، و محو الكثير من معالم الذات الواهمة وإبعاد الكثير من أشباح الانتصار.أعترفُ بأنَّ الفضل في العمل على ذلك يعودٌ من دون شك إلى الكتاب المُذهل الذي صفعني بقوَّة و أنا أتصفحُهُ : " الكلمات و الأشياء" . هذا الكتاب الذي انفتح من ثمة على أركيولوجيا المعرفة والحفر في أنظمة الخطاب...هذا الكتاب الذي انفتح على "الرؤية الأركيولوجية " للعالم ، والذي يُبرِّئُ الأشياء من جُرمِ استغلالها ويمنحُها الاستقلالية التامة عنَّا، ويضعها أمام عرائنا الفاضح في محاولاتنا المتكررة للاقتراب منها.
تمنحُناَ الأشياء فعلا فرصة الاقتراب منها، و لكنها في نفس الوقت تتنصَّلُ من أفعالنا ، إذ إنَّها في الأوَّل والأخير ، قد لا توجد إلا بأفعالنا ، و لا تأخذُ قيمتها إلا من خلال ذلك، و لكنها أيضا توجدُ في الزمن المفتوح، وتخضعُ لاحتمالات التفاعل النسبية كما لاحتمالات النوم الأبدي. إنَّ الأشياء ،لا ترقُـــدُ في انتظار نبي الإيقاظ أو اليقظة، بل نحنُ من علينا أن نسعى وراءها مجتــنبين الإيمان القاطع بالاستحواذ التام عليها ، لأنه في الحقيقة، لا يُمكننا أن نكون شموليين في ترجمتنا للأشياء ، حتى لا نرتكبَ نفس الحماقة القديمة ، ولا نكون واهمين.
ابتعادي وصمتي لعدَّة سنين عن الساحة المحلية، أملتهُ عليَّ هذه الحقيقة الأخيرة التي تكلَّمتُ عنها ، و هي حقيقة الأشياء .ومن أجل الاقتراب من ذلك، علينا أن نكون لزاما بعيدين عن الوهم ولا شموليين .وهْــمُ الانتصارات المُضحكة ، وشمولية استهلاك الشيء أو استنفاذه.
إنني أعود اليوم ، بعد صمت التأمُّل في العالم.أعود إلى دائرة أكثر اتساعا. أنفتحُ على الآخر البعيد .أرفُض - متحمِّلا مسؤولية ما أقوله الآن- الكثير من دناءات الخطاب الثقافي الجزائري التي حاولتُ عبثا أن أمنحها فرصة التصالح معي. أتنكَّرُ رغما عنِّي - لمحليتي-، وأنا سعيدٌ بهذا الوضع.
ثمنُ البحث عن النقاء ، ليس هينا، مع الأسف. خطابُنا الثقافي ، ليس نقيا. سيظلُّ اسمي مختفيا.هذا خياري الشخصي، ولكنه اختفاءٌ مفتوحٌ على وجود خارجي غارق في النقاوة واحترام حرية الأشياء التي علينا أن نُراجع سياسة تفاعلنا معها.حينها سأكون حتما ،مفتوحا بدوري على التغير،وهذا ما بدأ فعلا ،وبخاصة بعد حادثة وقعت لي في آخر مهرجان بالعلمة منذ حوالي السنتين حين أخذني صديقي الالأستاذ الدلباني - من أجل تغيير الجو - . الحادثة طريفة ومؤلمة ،وكان بطلها عبد الرزاق بوكبة الذي دعا مجموعة من المبدعين كنت جالسا وسطهم ،واستثناني أنا ،واعتذر لأنني لستُ (معروفا)،لكنه أكَّد بأن كل " شاب" من حقه أن يطمح وأن يصل إلى التلفزيون ...لحظتها ابتسمت عاليا ،وتذكرت كل تلك السنين التي ناضلت فيها في الجامعة وبعض الجرائد الوطنية في العشرية السوداء، ثم هجري التام لكل ما له صلة بتلك الصحافة ،وعودتي بعد عشرية كاملة من الصمت ،ولكن خارج الوطن،كي أؤسس لنفسي عزاءً بديلا.وأعتقد بأنني نجحت إلى أبعد من الحدود المتوقَّعة، وأسستُ لنفسي مكانا محترما في الخارج. لحظتها أجبته بأنني أبدا لستُ بحاجة ،لا إلى تلفزيونه ،ولا إلى من يعرفني في وطني !..كنت في غنى تام عن كل "هذا " !....لحظتها أصرَّ علي الأستاذ الدلباني بالعودة إلى الوطن وبالعمل في كنفه لأنَّ الخطأ لم يكن خطأ بوكبة ،بل خطأي ،وانه حان أوان البرهنة على ذلك !
***
ص.ن : أنت خِرِّيج معهد علم الاجتماع جامعة منتوري بقسنطينة.حضرتُ رسالتك لنيل شهادة الليسانس حول مالك حداد...من وجهة نظرك أنت ، ما الذي أضفته تحديدا ؟ و هل ما تطرقتَ إليه لم يكن متناولا من قبل ؟
ش.ش : ناقشتُ تلك الرسالة سنة 1997 .كنتُ آنذاك في الخامسة والعشرين . وكان العالمُ عندي بمثابة " ظاهرة فنية" تنعكسُ عبر كل شيء. ظاهرة يجبُ العمل على معرفة مختلف الجوانب الخفية فيها، وعدم الاكتفاء بتكرار كل ما قيل من قبل حولها أو تلميعه لكي يبدو جديدا للعيان. ومن أجل توسيع تلك الرؤية " الجديدة" على عالم علم الاجتماع ، وعلى المعهد الذي كنت أدرسُ فيه، اشتغلتُ لمدَّة تجاوزت السنتين ، يوميا تقريبا، و تجاوزتُ ساعات الاحتمال البشري، إذ طوَّعتُ الجسد على نوعٍ من اليوغا المعرفية عن طريق المطالعة اليومية من جهة ، ثم تجاوز الذات وعدم الاقتناع بماَ تمَّ الوصول إليه، بل البحث عمَّا لم يُقل، و رؤية ما لم يُرى والسَّياحة من ثمة في بلاد الجديد الذي تمنحُهُ لنا الكلمات والذي لا يمكن لنا أن نصل إليه إذا ما نحنُ اكتفينا بالملَكة البسيطة أو القراءة المتوحِّشة غير المدرَّبة أو أعطينا للجسد لغة الاتكال والرِّضي والطمأنينة، وأبعدناه عن هواجس التنقيب والتغيير.
لم يكن هدفي من خلال تلك الدراسة، وضع رسالة تخرُّج جامعية بلهاء وتكديسها مع الأطنان الهائلة من الرسائل التي ترقد سنويا في رفوف النسيان مثلما يجري ، بل عملا مفتوحا على عملٍ آخرٍ ممهِّد لعملٍ أكبر ، قد يمتدُّ عبر الدراسات العليا.عملا منهجيا ينقـعُ من الإيناء " الأركيولوجي " الذي وضع أُسُسَهُ الفيلسوف الفرنسي "ميشال فوكو ". حاولتُ أن أُزاوِجَ هذا المنهج بمَا وصلتْ إليه بعضُ النظريات "السوسيولوجية" التي اشتغَلَتْ على الفن . وبالطَّبع كان لزاما عليَّ أن أُربِّي نوعا خاصا من التحليل الذي يستلزِمُ مغامرةً فكرية خاصة، بلغةِ عربية وأدواتٍ منهجية غربية .أقولُ بلغةِ عربية ، لأنَّ جلَّ الأعمال العربية التي كانت تعالجُ المنهج "الأركيولوجي " في تلك المرحلة، كانت محدودة الامتداد ولا تمدّنا من ثمة بكل شيء، مما اضطرني إلى وضع قاموس إصطلاحي خاص بالمنهج "الأركيولوجي" ، والعمل بمتناوله. قلتُ، إنني أردتُ لهذه الدراسة أن تمتدَّ عبر الدراسات العليا، ولكنني صُدِمتُ ببعض الحسابات الأكاديمية البليدة فيما بعد والتي جعلت الدراسات العليا حكرا على نوعٍ معين من الطلبة الذين لا يمُتُّون إلى البحث العلمي بصلة وبالتالي إلى المشاركة في الديناميكا العلمية التي نحنُ بحاجةٍ ماسة إليها في العلوم الإنسانية بالجامعة الجزائرية من أجل إنماء المعرفة وخلخلة ركائز العقل الجامد. هذا العقل الذي تُقسرُهُ التعاليم الأكاديمية المحلية - ويا للأسف- على التكرار المُمِلّ وضيق الرؤية والانعدام الذي يبدو بشكلٍ واضحٍ للعيان على مختلف التخصُّصات التي تحصُرُ الهاجس الأكاديمي في الهاجس المادي ...لا غير !..
***
ص. ن : تقول إنَّك تمتلكُ أسرارا عن الكاتب الجزائري "مالك حداد" لا يعرفُها أحد..هل لها علاقة به ككاتب أم هي أمورٌ شخصية...ما هي مصادرُكَ ؟
طبعا، إنَّ ما يعنيني أكثر في "مالك حدَّاد"، هو الحياة النصية، إذا ما أنا تكلَّمتُ عن الجانب المعرفي، و أمَّا إذا ما غصتُ في الجانب - الحميم-، فإنني سوفَ أستنهضُ حتما خبايا حياته، و سيرته الذاتية التي جاءت من خلال كتابات من عاشروه أو من وصلتهُم روايات موثوقٌ بها عنه.
و لكنَّ "النص المالكي" ، مثلما أُشيرُ إلى ذلك في دراستي، لم يكُنْ في حقيقة الأمر بمنأى عن "الحياة النصية " للكاتب - و أحصُرُ هنا الحديث عن فترة ما قبل الاستقلال طبعا-، أينَ نبعت أعمالُهُ النارية كلها...أعمالُهُ الملتزمة بقضية محدودة المعالم من جهة، و مفتوحة على الإنسان أينما كان و حلَّ من جهة أُخرى...قلتُ ،بأنَّ أعمالهُ النصية تلك ،كانت حميمية كثيرا، و قد صرَّحَ بذلك شخصيا ، في أعماله الروائية ،أين كان يقول بأنَّ "الحياة ظاهرة أدبية ، بالنسبة إلى المؤلِّف "..
المتتبع لأعمال " مالك حداد" الروائية أو الشعرية أو "التأملية"، يُواجِهُ شخصا واحدا لا غير، مهما تعدَّدت الشخوصُ :فـ "خالد بن طوبال" هو نفسُهُ "إيدير" و "المؤلِّف " ، هو نفس الشخص "الانتحاري" أمام إرادة الحياة النقية العاجزة أمام الواقع ، وهو نفسهُ " الكاتب"...أي " مالك حداد"، قبل و بعد الاستقلال..
كان السؤال الثاني الذي طُرحته عليّ ، حول سبب غيابي عن الساحة الجزائرية لمدَّة طويلة، و كانت إجابتي تنحصِرُ عموما في الانتقال من المعرفة الورقية أو التجريدية للعالم إلى المعرفة الواقعية. و أكادُ أُجزم اليوم ، من خلال تتبُّعي للعديد من المحطات التي غفِلتْ عنها النصوص التي تحدَّثَــتْ عن " مالك" ، و من خلال يومياته التي تركها مليئة بالتناقُضات الإنسانية و تعرية الذات الكاتبة ، و من خلال الخطاب السياسي و الثقافي الذي أعقب فترة الاستعمار ، بأنَّ "مالك" أراد أن يحدِثَ نفس النقلة المعرفية. تلك (المعرفة) التي مهَّدَ سلفا لطرائِقِ تعامُلِهِ معها قبل الاستقلال. فكان له أن التزمَ فعلا بعهودهِ تلك تجاه الوضع الجديد الذي حلّ، والذي تجهزَّ له سلفا ببعض الالتزامات و التي من بينها ، و من أخطرها، العبارة التي عاهد من خلالها نفسَه ووطنهُ بأنَّهُ لن يكتُبَ بلغة المستعمر بعد الاستقلال.
وكان فعلا عند ذلك الوعد، رغم أنه اعترفَ كذلك بأن اللغة الفرنسية التي يكتُبُ بها ، هي لغةُ حضارة وشعر...لغة غناء، وبأنَّهُ لا يُحسنُ إلا الغناء بلغة " فولتير" و "بول إيلوار" ...!
هناك ظروفٌ كثيرة كذلك شاركت في قتل "مالك" الروائي و الشاعر والفيلسوف نضجت بعد الاستقلال، والتي من أخطرها بعضُ الأحلام والسذاجات الفُجَّة التي رافقتُه أملا في خدمة الإنسان الجزائري حديث الحرية آنذاك والتي ظهرت بعد انغماره في الخطاب السياسي الثقافي وإفلاسه فنيا وضياع الكاتب فيه، وتبخُّر الاستقلال وخيانة الكثير من الأصدقاء له وخيانته لهم. مثلما حدث له مع أسياخم وكاتب ياسين،أين احتدمت الصراعات على أشدها فيما بين القطب الأول ممثَّلا في مالك،والقطب الثاني ممثَّلا في أسياخم وكاتب ياسين،حيث كان هذان الأخيران لا يكفان عن اتهام "صديقهما" بانحيازه إلى الخطاب السياسوي المعادي للاختلاف والمتسبب في تشريدهما والتعتيم عليهما وتهديدهما بالسجن .واتهماه أيضا بحمله للواء الـ"أرابوفونية "والشوفينية العروبية المبالغ فيها كثيرا وانطوائه تحت لواء فحوى الخطاب الثقافي الذي كان يعكسه مثقفي حزب جبهة التحرير الوطني . ممَّا أدخل مالك في دوامة ضمير وإيديولوجية ،وتضييع للإشارة وتلفيق إبداعي غير مكتمل الملامح ،وانغماره من ثمة في نوع من العقاب الذاتي عن طريق تعاطيه المفرط للكحول..أو نوع من "المياكولبا"..!
كل تلك الظروف غير المواتية، لم تسمح لـ" مالك" بمواصلة مشواره الفني، و خيبت آمال قرَّائه فيه وجعلتهُ يكتُبُ وثيقة إفلاسه في كتاباته الكثيرة التي انتهت به إلى الاعتراف في يومياته بموته ككاتب وخيبته أمام الوضع الجزائري الذي جعل منه محترفَ سُكْرٍ في شوارع العاصمة حتى آخر أعوام حياته، والتي عاينها الرئيس الراحل " بومدين" بأُمِّ عينه في زيارته إلى مدينة "قسنطينة "...وعناءه في الأخير مع السرطان..
آخر أيام حياة مالك امتلأت بالتناقض والمحاولات الروائية الفاشلة..
إنَّ عظمة " مالك" كانت في أنه كان كاتبا في كل شيء. في كل ما قام به قبل وبعد الاستقلال. كان يُترجم الإنسان فعلا، بكل ما يحملُه ويحتملُهُ ،و حافظَ رغم كل شيء على قلَّة أعماله و عظمة رؤيته إلى العالم في مرحلة فنية رائعة ، لم يشأ لها أن تتدنَّسَ بتدنُّسِهِ كإنسان شارك في خطاب ثقافي و سياسي تتنازعُه المصالح والمصالح المتبادلة ..
سوفَ أتركُ للقارئ بعض التفاصيل في الكتاب الذي سيرى النور قريبا ضمن منشورات "أرتيستيك"، و سوف أعمل جاهدا على استكمال الجزء الثاني، الذي أفصلُ فيه بين علاقة الكاتب بالنص، فصلا مُسهبا، خاصة بعد معرفة بعض الوقائع التي أعقبت الدراسة الأولى.
***
ص.ن : ترجمتم أيضا رواية التلميذ والدرس ..لا !؟
•- ش.ش :طبعا..طبعا...
إن رواية "التلميذ والدرس "،حسب ما توصلتُ إليه ،ربما هي أفضل رواية ساق من خلالها مالك حداد الكتابة إلى أعمق أعماق ذاته، بتفاصيلها الدقيقة جدا وتشعباتها المذهلة التي تضع مالك ضمن أفضل روائيي العصر العالميين من دون شك...
هي رواية فنية ،شعرية،إنسانية ،يندر أن يمرُّ عبرها أي كان دون أن يقوم بداخله نوع من الوخز الفني ،الذي ينادي حتما بضرورة الإسراع بقتل السذاجة في أحاسيسنا ككُتاب ،وبقياس منجزاتنا " الفنية" بعظمة ذلك العمل ،الذي يُعتبر مقياسا فنيا حساسا جدا ،على الأدب الجزائري (الذي لم يعرف حتى الساعة قراءة نتاجه) ،أن يحتكم إليه لأجل تقييم مساره الإبداعي.
وأمَّا من الناحية اللغوية ،فإن مالك كان عصيا جدا على الغربلة المعنوية المعهودة ،أكاديميا أو إبداعيا. اللغة كانت تتملَّصُ إلى ابعد الحدود أثناء محاولة اقتحام معناها،خلال الترجمة .ولكنني،تمكنت في الأخير من الانتهاء من العمل ،لا كنص مالكي بحت ،لأنني لن أقوى على هذا الجرم أبدا ،ولكن كاقتراب وتعمُّق أعتقد بأنه كان كافيا كي يُقنعني بأنني حققت أسمى ما أشعر به تجاه هذا الكاتب العملاق.
الترجمة كانت لي إذن. النص كان لمالك. صار هناك نصان لا أدَّعي بأنهما صنوان تماما،ولكنهما يشتركان في الكثير من حميميات لغة خاصة جدا ،كي تستمر الحياة دوما بمقتل احدهما في الأخير، حسب تعبير أنتونان أرتو في مسرح القسوة.
والترجمة تمت ،وتمت تقيمها من قبل بروفيسور في الجامعة الامريكية ببيروت بفضل المعهد العربي للترجمة التابع إلى جامعة الدول العربية.وتمت الموافقة على نشر الرواية ،وإرسالها إلى صاحب حقوق نشر أعمال مالك حداد (دار النشر ميديا بلوس بقسنطينة) منذ أزيد من ثمانية أشهر.وعوض أن ترى النور خلال الأسابيع التي أعقبت استلام المادة،فإنها استحالت إلى نوع من المزايدات التي يتحجج بها صاحب دار النشر،نكاية ببرنامج الجزائر عاصمة الثقافة. مماَّ أبقى على الرواية في بريد التنسيقية التابع إلى معهد الترجمة ،وحرم مالك من أن يُقرأ أخيرا عبر رائعته " التلميذ والدرس" بلسان جزائري خالص.
الغريب أنه عُرض عليَّ نشر الرواية خارج حدود الوطن ،وعُرضت عليّ الكثير من المحفزات المادية من أجل شراء حقوق الترجمة ،ولكنني رأيت بأنني مرتبط مع المعهد العالي للترجمة بعقد أخلاقي ،لا يمكنني التفريط فيه .والغريب أن الخاسر الأكبر ،هو مالك حداد، والجهد الكبير الذي بذلته لأجل إتمام الترجمة .مما أصابني بنوع من الإحباط الجديد تجاه العمل الثقافي في هذا الوطن ،وذلَّل من بعض عزيمتي.
ص.ن : حدِّثــنا عن " الهوامش الكونية - تأملات في حياة معدمة- .هل كان لها صدى و تتبُّع؟
ش.ش : كتاب الهوامش الكونية ، يتكون من جزأين حتى الآن.الجزء الأول طُبع بالقاهرة ،في مركز الحضارة العربية 2008 والطبعة الثانية سترى ربما النور قريبا لدى دار السبيل بالجزائر العاصمة .وأما الجزء الثاني فسيظهر عند نهاية السنة ،ضمن منشورات (ن) . بعض الحسابات التي كانت غائبة عني ككاتب، جعلتني أتخاذلُ في العطاء أكثر للثقافة الجزائرية ، وبخاصة أنني ممَّن يُفضِّلون العمل في صمت، والقفز فوق العديد من الأوهام التي قد تبدو في شكلِ فرص أو غنائم، و التي يُوفٍّرُها الخطاب الثقافي الجزائري الموغل في العلاقات الحميمة والحسابات التي لا تأخذُ الجانب الفني مأخذَ الجد.
إنَّ هذه " التأملات"،هي مجموعة من التمعُّنات النَّقدية التي أحاول أن أُؤَسِّــسَ لها، و أن أبني بفضلها رؤيةً نقدية جديدة واتجاها جديدا لا يُعيدُ تكرار العالم في قالبٍ مجهَّز سلفا للقارئ ، بقدر ما يمدُّه برؤية مفتوحة على تجاوز الذات عبر تجاوز التعاليم الروتينية التي ملَّ منها القارئ العربي، وجعلتهُ ينفُرُ من قالب المتابعة المحدودة والأهداف الجاهزة.
"الدينامو" الوحيدُ للفكرة هو "المغامرة " ، الانفتاح الواسع على "المُفاجأة "، التقبُّل المذهل للنتيجة والقناعة التامة بتعدُّد النتائج وبالتالي الحلول، وبالتالي غنى الفكر البشري، أي حرية الرأي والتعبير، حرية مغامرة الكلمات . والحرية هنا، هي العمل المتواصل ، شحذُ الذات ، تحمُّل أعباء البحث والالتزام برؤية ممنهجة. الحرية هنا ،ليست صنو الفوضى أو عمل أي شيء دون تحمُّل ما يترتَّبُ عنه. الحرية هنا،هي التزامٌ وكشف ومسؤولية وليست مهربَا.
بقدر تعدُّد الدروب التي تفتحُها هذه" التأملات" بقدر ارتباطها برؤية منهجية -مؤسَّسَة-. الفكرة المُشرِّحة أو المعالِجة، تنطلِقُ من تطبيقها الواقعي على حياتنا الفنية أو اليومية. المعالجة مدرَّبة وفق أدواتٍ منهجية معينة. النتيجة مفتوحةٌ على الإنسان ولا يمكنُ تحديدُها سلفا أو عند المنتهى، حتى يتمكَّنَ النصُّ المُعالِج من خوض الصراع مع نصوص التأويل الأُخرى التي تجتهدُ هي الأُخرى لإثبات ذاتها.
لكلِّ موقفٍ سلاحٌ نصيٌّ معينٌ.لا يمكنُ أبدا تعرية جميع الأسلحة التي بحوزة الكاتب. المفاجأة، يجبُ تقبُّلُها في النهاية . الدّعامة الوحيدة التي يجبُ أن أؤمن بها أنا شخصيا ككاتب ، هي المغامرة . مغامرة الفكرة.
" التأملات" كتاب مغامرة. مغامرة تأخذ حياتنا كبشر معرَّضين لمفاجأة الظروف و"قوّة الأشياء" وسخرية القدر. مغامرة تجعلُ الإنسان هو المفعِّل الوحيد والمسؤول عن مصيره..أو تدفعُهُ إلى محاولة ذلك عوضا عن المُمثِّلين غير المُباشرين أو الذين يدَّعون الشرعية لتمثيلنا ويُسطِّرون مصائرنا، والذين أثبتوا فشلهم الذَّريع حتى الساعة.
وأما من ناحية الصدى و التتبُّع، فإنَّ ذلك لم و لن يكون هاجسي .بل إنني أكتفي بالقلَّة النادرة من القُرَّاء و النّقَّاد الذين يُشكِّلون في الحقيقة جانبا غنيا في الكتاب - إن لم يكن هو الجانب الأغنى !- . أنا نخبوي جدا من هذه الناحية .تعامُلي في الغالب، هو مع نقادٍّ من مختلف أرجاء العالم. " التأملات" كتابٌ أشتركُ فيه مع شريحةٍ هاجسُها نبيل جدًّا، و هدفُها الوحيد ، هو خدمة النقاط الحسَّاسة التي ذكرتُها آنفا .
إنَّ عدد القراء لا يُمثلُ قيمة المادة.و طبيعة المادة التي أطرحُها أنا شخصيا، تتطلَّبُ جمهورا معينا ، بعُـــدَّة ومرجعية واستعدادات خاصة.
***
ص.ن : أنت تميلُ إلى النشر الافتراضي ...ألا ترى بأنَّ عامل التركيز يغيبُ عن هذا الفضاء .كما أنه لا يمكننا أن نعوِّضَ متعة القراءة الكلاسيكية، أي الكتاب . فما الذي قدَّمَهُ لك هذا النشر بالتحديد ؟
ش.ش : بزغ النشر الافتراضي بالموازاة مع النهضة التكنولوجية التي حدثت في " الغرب"...بزغ بفضل المعاول الفكرية التي جاهدت من أجل توسيع حقوق الإنسان وحرية التعبير. فالإنترنيت، أداةٌ نطوُّرٍ عظيمة أخرجت الإنسان من قمقم "المحلية"و أمدَّتهُ بالاتصال المُباشر مع العالم وأيقظت المعلومة من نومها و كسرت حواجز الرِّقابة والحصار الفكري الذي فرضتهُ السُّلطات المركزية بأدواتها القمعية التي جعلت البلدان المتخلِّفة تعيشُ مرحلة ما قبل التاريخ فيما يخصُّ تداول المعلومة واستهلاكِها.
تضعُنا "الثقافة الافتراضية " بمختلف مشاربها، أمام عرائنا (حقيقتنا)،ووحدها الأدوات التي تجهَّزنا بها ، هي القادرة على منحنا القراءة السويَّة لبحر المعلومة. فهل إنَّ تلك الأدوات موجودةٌ في ثقافتنا العربية؟ هل إنَّ مناهجنا التعليمية تمدُّنا بالأدوات اللازمة لخوض هكذا بحر؟
إنّ الثورة المعلوماتية التي نعيشُها اليوم بمَا توفرُهُ لنا عبر الإنترنيت، كانت بمثابة المفاجأة غير المنتظرة التي واجهت استعدادنا الواهن لعالم المعلومة. فالسيطرة المركزية التي عانينا منها كثيرا قبل مرحلة العولمة ، والدراسات الفكرية العربية النقدية التي دعت إلى تعديل رؤانا ومناهجنا التربوية والتي لم يؤخذ بها أكاديميا ولا حتى عبر برامج المنظومات التربوية ، جعلتنا نصطدمُ بحقيقة ضعف ركائزنا وقناعاتنا أمام ثورة "المعلومة "التي تشترطُ ما تشرطُ من تبادل ومشاركة و صناعة . هذا لا ينفي ، من أننا كعربٍ، أصبحنا ، بعد بضعة سنين من التعامل مع المنتديات الفكرية المختلفة، نُشاركُ بقسطٍ في النهوض ، معالجةً وتداولاً واستهلاكا وصناعة، غير أنَّ جانب التغيير يظلُّ هيِّنا ولا يحسبُ له حسابٌ كبير، خاصة إذا علمنا بأن هناك حتى الساعة، بعضُ الدول العربية التي تُراقبُ عبر حكوماتها القمعية قنوات المعلومة عن طريق "البروفايدر" !.فتتحكَّمُ في عناوين المواقع وفي المادة المنشورة وتراقب الجمهور المستهلك لأداة الإعلام تلك. هذه الدول والحكومات القمعية ، وجَّهت لها منظمة " صحافة بلا حدود"في تقريرها سنة 2005 الكثير من التوبيخ ، إلا أنها لم ترعوِي. إنَّ سياسات الرقابة هذه، تقتُلُ الإنسان في الصميم و تجعلُ الصحافة والنشر الحر شبه مستحيلين..فتقضي مباشرة على جوهر الإبداع .
وأمَّا سؤالك عن إمكانية غياب عامل التركيز في النشر الافتراضي، فهو سؤال وجيه جدًّا ، ولكنه لا ينحصِرُ فقط في هذا الشكل من النشر. فالجرائد ودور النشر أو المطابع التي تحتكمُ اليوم في نشر أي عمل يستوفي الغرض المادي لا غير ، وكذلك الجمعيات " الثقافوية" المسكينة التي تنزَغُ إلى النشر " الحميمي" ... كلها تُشاركُ مباشرة في تغييب المصفاة الواعية وفي نشر ثقافة " الساندويتش"، أي في تأسيس ثقافة واهنة تحدُّ من الرؤية الناضجة للقارئ وتُغيِّبُ عنه مع مرور الوقت معالم الطرق السوية لاكتساب المعرفة و تُدَنِّي من مستواه.
كنتُ ولازلتُ دائما من أنصار استقلالية المفهوم عن الاستعمال الخاطئ له. فالأدوات التي نستغلها لخدمة أغراضنا وتحقيق مآربنا، لا يعني أبدا بأنها هي الآثمة إذا ما أُسيئ استعمالُها، و إنما نحن المسؤولون عن تلك الإساءة. و عامل التركيز إذن، هو عاملٌ فرديٌّ يخصُّ صاحبَهُ. و الغثُّ السَّمين هو جزءٌ مهمّ في النتاج الثقافي، و يُشاركُ بشكلٍ كبير في موازين ذلك النتاج.لا بُدَّ من أن نعترِفَ للكفّة الوسِخة- أو التي قد تبدو كذلك أحيانا في العيون العمياء للمركز- بمشاركتها هي الأُخرى في صُنع توازن الكون .
وأما عن متعة القراءة " الكلاسيكية" ، فهي جزءٌ من "النوستالجيا" التي صدر في حقِّها حكما بالإعدام منذ أكثر من عقدين من الزمن.لقد تنبَّأ العالمُ - حسب معلوماتي التي عايشتُها منذ التسعينيات من القرن المُنصرم- بموت الشكل الورقي للثقافة .وأكَّد عصر العولمة على ذلك.لكنَّ " الأرشيف" بشكله الورقي،يبقى بحكم انتمائنا إلى الفترة "المُخضرمة" جزءًا مهما فينا، و بخاصة في ظل غياب الشكل المادي التكنولوجي المتطوِّر عندنا و الذي يُعوِّضُ الحيِّز الفضائي الكبير الذي يشغلُهُ الكتاب في رفوف منازلنا، كدليل حضاري و ثقافي .إنَّ المسألة مسألة شغل حيز فضائي وترجمة مكانة ثقافية ،بفضل درجة الثقافة التكنولوجية التي تحكم تعاملنا مع الأداة الإعلامية ، والتي تختلفُ من شخصٍ إلى آخر ،والتي تلعبُ دورا مهمًّا في التنصُّل من القراءة الكلاسيكية للمعلومة.
كل الأشكال الثقافية محكومة بعامل الزمن، ومن بينها الكتاب كشكل أيضا.
- ما الذي قدمهُ لي النشر الافتراضي؟
ش.ش : قدَم لي قفزة زمنية كبيرة جدًّا، لم تكن في مقدور الكتاب أو الجرائد المحلية. قفزة نوعية من الوعي والاتصال..وبالتالي من الإنتاج الفكري . إنّ " الزمن الورقي" ثقيل جدًّا مقارنة مع الزمن الافتراضي، وبالتالي فإنَّ العمر الافتراضي L'âge virtuel طويل ..طويل جدا وأكثر اكتنازا من ناحية وصول المعلومة وارتقائها وتبادلها وصناعتها.غير أنَّ ، جدلية الزمن/المكان تبقى مطروحة بعمق وسط كل هذا التعامل المكثَّف مع المعلومة. هذه الجدلية التي يجبُ العمل على تحديد العديد من جوانبها من أجل معرفة هويتنا الافتراضية. هذه الهوية الجديدة والديناميكية التي تختلفُ أيما اختلاف عن الهوية "الكلاسيكية" المتوارثَة ،والتي تُجمِّدُنا في خطاب مركزي وأقطاب مستهلكة أثبتت عجزها عن الاتصال مع " الآخر".
***
ص.ن : لماذا لا تحضر الملتقيات الأدبية ؟ ما موقفُكَ منها؟
شزش :إنَّ حضور الملتقيات الأدبية و/ أو عدمُهُ، تحدّدُهُ شروطٌ واضحة، يتعذَّرُ عليَّ الإلمام بجميعها.ولكنني سوفَ أسرِدُ بعضا منها:
- النخبوية.
- الوساطة.
- الأيديولوجيا.
- الحسابات الحميمية الخارجة عن منطق الإبداع.
- تزوير نتائج المسابقات التي تختتم بها عادةً الملتقيات، والتي يتغاضى عنها الصحافيون رغم علمهم بذلك، وكثرة تغطيتهم لفعاليات الملتقيات.
- المستوى الرديء.
- ندرة المداخلات التكوينية والنقدية مقارنة مع الحضور الفاضح للشعراء والأدباء و مقتنصي الجوائز الذين ينتقلون إلى الملتقيات والمهرجانات ، محمَّلين دائما ببعض القصائد والكتابات الوجدانية التي تتعثَّرُ فيها اللغة العربية المسكينة، والتي يتم تكرارها حتى السَّأَم.
- غياب المواضيع الجادة والأسماء المتخصِّصة التي يتمُّ عزلُها في أغلبِ الأحيان و تعوَّيضُها بأسماء لا مكانة لها في السُّلم الارتقائي للثقافة.
خياري الشخصي بالابتعاد عن كل تلك الدناءات ، جعل اسمي غير متداَول البتة عبر الأنشطة الثقافية الجزائرية، إلا بشكلٍ جدُّ محدود ، ممَّا عرضني إلى بعض المواقف المحرجة، و التي من بينها موقفٌ حدث لي مؤخرا في ملتقى "العلمة" مع التلفزيون الجزائري ، في الحصة الأدبية " كلام القصيد " التي يُخرجُها السيد "بوكبة"،والذي تحدثت عنه أعلاه.
***
ص.ن : كيف ترى الساحة الأدبية ؟ وهل ثمة أسماءُ تستفزُّكَ وأُخرى لا تعنيك البتة ؟
ش.ش : الساحة الثقافية في الجزائر غنية جدًّا ، وواعدة رغم كل العراقيل الدنيئة التي تُحاصِرُها.غنية إذا ما تمَّ التخلُّص من بعض الأفكار المُسبقة التي يتسلَّحُ بها مُمُّثلو ثقافة المركز مستعينين في ذلك ببعض المثقفين المُهمَّشين /الوصوليين الذين يحلمون دائما باقتناص الفرصة دون التفكير في قيمة وسائل الوصول.واعدة ، إذا ما تم إبعادُ شبح العزل والدخول في سياسة إنمائية ثقافية جديدة ، مستقلَّة وانتقائية و مُكَوَّنة .هذه السياسة التي تسمَحُ بالتقليل من العزل" المكاني" خاصةً،والتي تمكن من تعميم المثاقفة وإبراز القدرات الواعدة وتوجيه الناشئة وإبعاد الممثلين الواهمين عن واقعنا الثقافي المريض الذي يُوفرُ الموت ، أكثر من توفيره للحياة.
هناك بعضُ الأسماء الجزائرية التي " تستفزُّني" - سلبا و إيجابا -...فبالإضافة إلى الأسماء الركيكة التي تتشبَّثُ بشكلٍ كبير بعدم التطوُّر وترفُضُ التغيير ، والتي لا داعي لذكرها لأنها غير جديرة بذلك في هذا الحوار، هناك أسماءٌ نقدية وشعرية و أدبية محترمة جدًّا، لم تواتها الفرصة الحقيقة للبروز بشكلِ ديناميكي فعَّال ومؤثِّر في صميم توجُّهات الثقافة الجزائرية الواعي، غير أنها أسماءٌ نادرة ، يحضُرني و يغيبُني ذكرها جميعا، بسبب غيابي الشخصي عن الساحة المحلية. هذه الساحة التي أذكُرُ صوَرَ أصحابها أكثر من ذكري لأسمائهم.
عموما أنا على مسافةٍ بعيدة نوعا ما عمَّا يحدُثُ يوميا، و لكنني أُحاولُ أن أُتابع بقدر الإمكان.
***
ص.ن: أنت تقراُ الفلسفة كثيرا.معروف عنك بأنك تعشقُ الفلسفة الغربية .ما لذي أضافته لك هذه الفلسفة ؟
ش.ش : إن التصوُّر"الكلاسيكي" للفلسفة تصوُّرٌ يكاد لا يختلف عن التصور الحديث لها، إلا في شكل تطبيقها على مختلف المعارف والعلوم التي نتداولُها عبر مختلف مجالات حياتنا مستعملين شتَّى الأدوات المنهجية التي يتطلبُها الموضوع المدروس. فهي - أي الفلسفة- دائما تُمثِّلُ الرؤية التحليلية للحالة المدروسة، وتختلف في مستويات تحليلها بين كل مصدر محلِّل وآخر. والمنهج الذي نستعملُه ليس هو الذي يعكسُ قوة التحليل، بقدر ما يعكسُه المحلل ذاته (في معظم الأحيان).
والهروب من منهجٍ إلى آخر قد يُشاعُ عنه قوَّة مفاهيمه وتصوُّراته لدراسة الحالة ، لا يعني بأن ذلك سوف يشفعُ لنا بؤس النتائج المتحصَّل عليها وعدم مواكبتها للواقع المعاش أو - المعيوش- كما كان يحبّ أن يكتب الراحلبختي بن عودة، وبالتالي تضييعها للظاهرة وزيادة تعتيمها وتضييع معالمها.
إنَّ الفلسفة الغربية ، التي تعود حتما إلى الفلسفة الإغريقية ، تعود بالفضل الكبير أيضا إلى الفلسفة العربية التي لعبَت دورا كبيرا في مرحلة ظلماء من تاريخ الغرب.وحين كانت السيرورة المعرفية البشرية محكومة بالعودة إلى ما اصطُلِحَ على تسميته بـ" الثقافة الغربية" -وهو تمييز جغرافي إيديولوجي بليد، لا أُحبٍّذُ أخذه بعين الاعتبار- عملت هذه الثقافة بحكم الظروف الثقافية التي حتَّمتها الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والدينية الخاصة على إنماء هذا الجانب الراقي للمعرفة البشرية ، وهو (الفلسفة)، على اعتبار أنها الأساس الابتدائي للتفكير البشري الخالص الذي على الإنسان أن يفتتح به التفكير في مصيره و في علاقته مع الأشياء. هذه الأشياء التي يدَّعي الجميع تمثيلها والتحدُّث بدلا عنها. إنَّ الفلسفة، هنا، تقوم مقام الحاكم وسط هذا السيناريو المُحرٍّك الذي ينقسم إلى دالٍّ ومدلول ، إلى مُمثِّــلٍ ومُمَثَّــل .
أنا من المنتصرين إلى الفلسفة "الغربية"، لا بحكم التقسيم الجغرافي البليد - كما ذكرتُ آنفا - ولا بحكم استغلالها الإيديولوجي الشنيع أحيانا أُخرى، ولكن،لأنها أقلُ شمولية ، أرحبُ مجالا وأكثرُ قربا من توجهات روحي الثقافية ، وكذلك لأنني أقلُّ إطلاعا على ما يحدُثُ في غيرها من فلسفات.
إنَّ الانفتاح الواسع على مختلف المعارف اليوم ، لم يعُد بمقدور الطاقة البشرية التي تبدو بسيطة جدا في حضرة الزخم ، و لذلك فإنَّ تحديد مجال الرؤية مطلوبٌ اليوم ، و على كل مثقفٍ أن يتسلَّحَ اليوم بمنهج مؤَسَّس. لذلك ، فإنَّ الخطر لا يتأتى من المثقف الذي يتبنى اتجاها فكريا ما، بقدر ما يتأتى من المستثقف الذي لا يمتلكُ أي أساس معرفي أو منهجي.هنا تنعدمُ المنطلقات تماما، ويغيبُ الهدف وتضيعُ المسؤولية عن النشاط الذهني الذي نقومُ به.هنا تكمُنُ الكارثة.
***
- أنت متمكن إلى أبعد الحدود من اللغتين العربية و الفرنسية، ألم تستهوك الترجمة ؟ و إن حدث فلمن تترجم ؟
إنَّ الهواية، تختلفُ كثيرا عن الاحتراف.أنا هاوي ترجمة لا غير.و لا أستعين بذلك- أي بالترجمة -إلا لخدمة بعض الأعمال الشخصية .طلب مني بعض الأصدقاء أن أُباشر بعض أعمال الترجمة ، و لكن الوقت لم يسمح لي بذلك بحكم عملي كإداري في مركز البحث العلمي والتقني ومسؤولياتي العائلية التي تسرقُ مني باقي اليوم أستغلُّ الكثير من الزمن للاشتغال الفكري ، غير أنني لا أجد الوقت الكافي لذلك. "اليوم" يبدو قصيرا جدا،مقارنة مع المسؤوليات الفكرية التي التزمت بها والتي تتطلب أن يتجاوز اليوم ساعاته الأربع و العشرين إلى ثلاثين فما فوق...!!!.
أتساءلُ دائما لماذا ليس من حقنا أن نحصُل على منحة كاتب، تسمح لنا بالتفرغ التام للكتابة ، بدل العمل "الترقيعي" الكوميدي الذي نلهثُ وراءه بقدر الإمكان ؟ غير أنني أعود و أُكرر دائما،بأن سياسة التسيير السليمة ،التي ترفعُ من شأننا ككتاب لم تُخلق بعدُ في أوطاننا العربية.
لو كانت لي فرصة الحصول على تلك المنحة لتخلَّصتُ من العوز المادي واشتغلتُ على أشياء كثيرة أراها تخدُم في العمق الإنسان العربي، و اشتغلتُ بالترجمة، و لكن،،،،ليس كل ما يتمناه المرء يُدركُه ! .أتساءل أيضا ، كم من الكُتاب الحقيقيين يتم قتلهم عنوة ، بسبب سياسة التدمير التي يمثلها القائمون على أمور "القبيلة " التي نُشكلُها.
بالنسبة لي ، الترجمة عمل حبّ .فأنا لا أُترجم إلاَّ لمن أشعر بنوعٍ من الرابط الحميمي بيني و بين من أقرأ له ، وهي أيضا عمل لإجرامي مستحَبّ. قتل النص للنص.قتل عن حب ، لا عن كره .و أما لمن أُريد أن أُترجم ؟ فحتما أنت تعرفين إجابتي سلفاً ؟؟ أريد أن أُترجم لكاتب لطالما قتلني في نصوصه.أريد أن أُترجم لمالك حداد ...بامتياز !..وقد نجحت في تجربتي الأولى ،ولكن التسيير السيئ الذي تنتهجه قوى القرار الثقافي في هذا الوطن ،حال دون ظهورها حتى الآن.
على الدولة أن تعيد النظر في مسألة احتكار حقوق النشر.لأن الخاسر الأكبر هو العطاء المبدع في هذا الوطن.
***
ص.ن : كلمة أخيرة ..
سوف لن أُكرر كلاما جاء على لساني خلال المئات من الصفحات التي حوتها "التأملات"، و إنما سوف أكتفي بعبارة للناشئة ،جاءت على لسان "أدونيس" حين زار قسنطينة سنة 1991 :" وسِّعوا الدائرة..وسِّعوا الدائرة رجاءً ".
شرف الدين شكري
__________________
"الإرهاب أن نرى الذل والظلم أمامنا ولا نحرك ساكنا